العام الدراسيّ بين احتفال واحتفال

أصبح العام الدراسيّ في يومنا هذا غريبًا بعض الشيء: من احتفال إلى احتفال ومن يوم عالميّ إلى آخر محليّ؛ من مسابقة إلى أخرى، ومن حملة توعية إلى حملة ترفيهيّة؛ بين اليوم العالميّ للّغات واليوم العالميّ للّغة العربيّة؛ بين يوم للتنمّر ويوم للاختلاف؛ بين أعياد دينيّة وأخرى دنيويّة؛ بين يوم الطفل وشهر التوعية من مرض السرطان؛ بين يوم “البيجاما” (Pyjama) ويوم الرياضة… وكأنّ الذهاب إلى المدرسة أصبح للاحتفال وحسب. وعلى رغم كلّ أيّام التوعية والاحتفالات، نلاحظ أنّ النتائج المستهدفة تبقى بعيدة.

يعتقد البعض أنّه كلّما تعدّدت الاحتفالات في المدرسة، أصبح المجتمع منفتح العقل ومتقبّلًا للآخر. ولكنّ مفهوم “العقليّة الدوليّة” لا نكتسبه فقط من خلال احتفالات تركّز على القشور أو على رأس جبل الجليد، كما ذكر E. Tall، حين تكلّم عن مفهوم الثقافة: الاحتفالات، والأزياء، والطعام، والمشاهير والأعلام والتراث الشعبيّ ((The 6 Fs: festivals, fashion, food, famous people, flags, folklore، حيث اعتبرها جزأً لا يتجزّأ من الثقافة، ولكنّها ليست كافية لتطوير فهم مستدام عن الآخر.

1

من هنا تبرز أهمّيّة المناهج التي نصمّمها في حياة الطلاب وتشكيل شخصية المتعلّم الصغير، كما خطورة الرسائل التي يمرّرها المدرّس بين السطور عن أيّ موضوع داخل الفصل. فكم من طفل عاد خائفًا من حصّة تربية دينيّة؟! وكم من طفل طرح العديد من الأسئلة عن مواضيع لا نتكلّم عنها عادة في المنزل؟! كثيرة هي القصص والأحداث التي نستطيع سردها، والتي تعكس مدى خطورة دور المعلم داخل الصفّ في حال أصبحت معتقداته وقيمه في صلب عمليّة التعلّم والتعليم. كلّ الصور والمصادر والكتب والقصص والنصوص التي يختارها المدرّس، تحمل في داخلها عددًا كبيرًا من الرسائل التي قد تكون متناقضة بشكل كبير مع بيئة التلميذ ومجتمعه.

القصص كثيرة عن أثر ما نفترضه من صراع الثقافات، ومقاربة موضوع اختلاف الأديان، وقد رافقتني في رحلتي كمدرّس ومنسّق ومدرّب. بداية حين نظّمت رحلة إلى كنيسة قريبة من المدرسة مع تلاميذ مسلمين، ضمن وحدة للتعرّف إلى الأديان، وردّات فعل البعض الرافضة لتلك الرحلة في بلد كلبنان، نجد فيه إلى جانب كلّ مسجد كنيسة. وحين فتحتُ كتابًا عن Leonardo Da Vinci  وظهرت رسمة خنزير، وكيف ثار طلّاب الصفّ الثالث الابتدائيّ (عمرهم 8-9 سنوات) لأنّ الخنزير حرام، حتّى في لوحة! وصولًا إلى بريد من أمٍّ ترفض إرسالنا إلى المنزل قصّة لابنها تتحدّث عن الآلهة اليونانيّة والرومانيّة. وبالطبع لا أنسى معلّمة رفضت اعتبار مدرستنا الدوليّة “دوليّةً” لأنّنا لا نحتفل ب Halloween.

ولا ننسى الصورة النمطيّة التي تُقدّم لدور المرأة في المجتمع؛ فمعظم المناهج تصوّر المرأة داخل المنزل تهتمّ بعائلتها، وقليلة هي المناهج التي تصوّرها قائد أو مديرة. كذلك قليلة المناهج التي تركّز على أسباب تغيّر العائلة، وكيف تغيّرت نظرتنا إلى الجمال، ولماذا؟ أين هي الدروس التي تركّز على التأقلم النفسيّ والجسديّ والعاطفيّ مع كلّ هذه التغيّرات من حولنا؟ وكيف نحمي أنفسنا من المخاطر اليوميّة؟ أين هي الدروس التي تثير التفكير الناقد ولا تركّز فقط على أمجاد الماضي؟ كم جميل لو رأيت في الكتاب المدرسيّ أو دليل المعلّم، مثلَ هذه الفقرة: على المعلّم أن يصمّم وحدة ترتبط بالواقع يقوم بتصميمها مع التلاميذ. يلجأ المعلّم إلى مقالات من مجلّات إلكترونيّة أو ورقيّة، أو قصص من الواقع و بعض الأفلام الوثائقيّة، أو حتّى برامج الTed talk  لتدريس هذه الوحدة.

كلّ هذا التطرّف ينمو ويكبر في مجتمعاتنا لأنّنا، وبكلّ بساطة، نركّز في مدارسنا على طرح أسئلة نفترض أنّها تحمل إجابة واحدة فقط. نخاف من الأسئلة المفتوحة، ونخاف من الأسئلة التي تتعدّد فيها الإجابات. نركّز على الصحّ والخطأ، وننسى أنّ الصحّ في مجتمعٍ قد يكون خطأ في مجتمع آخر، والعكس صحيح. في هذا الزمن، حيث كلّ شيء متاح، ما زالت بعض الأنظمة تحظر بعض المواقع وبعض المواضيع وبعض التطبيقات، فتثير الشهيّة لدخولها برغم المنع، وبغضّ النظر عن نوع الموقع أو التطبيق. أليس من الأفضل أن تُطرح كلّ تلك المواضيع للنقاش والحوار داخل جدران المدرسة، وبإشراف المدرّس، بدل أن تصبح مواضيع محظورة نبحث عنها بالخفاء وبطرق ملتوية؟

أليس التطرّف شيئًا ممّا نحصّله من مناهج معلّبة لا تبحث إلّا عن “الإجابة الصحيحة”، والتي تعتبر الآخر ذا الإجابة المختلفة على خطأ، فيصبح إلغاؤه مباحًا لأنّنا نخاف منه ولم نتعرّف إليه؟!

السلام يبدأ حين نكتشف أنّ كلّ هذه الشعوب والقبائل، وكلّ هذه العادات والتقاليد، وكلّ هذه اللغات والمعتقدات تجمعنا وتوحّدنا كبشر. هذا الغنى على كوكب الأرض يجب أن نحتفل به، ولكن ليس احتفالًا سطحيًّا، بل احتفال سيحدث بعد عمليّة اطّلاع وبحث واكتشاف وطرح أسئلة. المعتقدات والقيم والعادات والتقاليد مفاهيم تتخطّى حدود المكان والزمان، وهي عابرة للقارات. حين يصبح التعلّم داخل الفصل معتمدًا على المفاهيم، وحين يصبح مفهوم وجهات النظر جزءًا أساسيّا من منهجنا، نخطو خطوة تجاه الآخر. وهذه الخطوة بالطبع، ستساعد في حلّ المشكلات التي تواجهنا في يومنا هذا.

نشر هذا المقال لأول مرة على منصة منهجيات في 19 مارس

9 thoughts on “العام الدراسيّ بين احتفال واحتفال”
  • Boudour
    يونيو 8, 2023 at 6:37 م

    اكثر من رائع عله يتحقق يوما ما

    • Ali Ezzeddine
      يونيو 9, 2023 at 12:51 ص

      شكرا

  • Amina Nachit
    يونيو 8, 2023 at 8:06 م

    ماشاء الله عليك استاذ
    روعة الحقايق باسلوب شيق

    • Ali Ezzeddine
      يونيو 9, 2023 at 12:51 ص

      أتمنى أن تنال اعجابك جميع المقالات ومشاركتها أيضا مع الزملاء

  • وفاء الباقر يوسف
    يونيو 9, 2023 at 1:42 م

    مقال في قمة الروعة والوعي والثقافة ودور الكاتب على عز الدين في ترسيخ العقلية الدولية بالطريقة المثلى التي تعتمد على المفاهيم والمصطلحات وليس المعتقدات.

    شكرا لك أستاذي الفاضل كانت هذه السنة نقلة حقيقية في مسيرتي كمعلمة ونحسبك ل من الذين لهم دور في ذلك

    • Ali Ezzeddine
      يونيو 9, 2023 at 3:12 م

      شكرا وفاء

  • Amira
    يونيو 10, 2023 at 4:00 م

    كلمات رائعة تعبر عن ما بداخل كل معلم يريد التغيير نحو عقلية دولية متفتحة,ولكن اختلف معك استاذي العزيز بتعبيرك عن الام لانها ترعي البيت يقلل من شأنها .فمن وجهه نظري انها اروع وظيفة تقوم بها المرأة.

    • Ali Ezzeddine
      يونيو 10, 2023 at 4:06 م

      شكرا أميرة، المقال لا يقلل من شأن الأم بالطبع ولكنه يبحث يسلط الضوء على الأدوار التي لا نراها في المناهج

  • منيرة
    يونيو 12, 2023 at 1:40 م

    مقال يلقي الضوء على أهمية التغيير في المجتمع اللبناني بشكل خاص وأقصد هنا أهمية إحترام وتقبل الأهل للآراء و الأفكار التي يحملها أولادهم من المدرسة نتيجة النقاش المثمر في مواضيع هامة وأساسية ترسم خارطة الطريق في مشواره نحو المستقبل.
    كل الشكر للجهود التي تبذلها من أجل تسهيل انتقال التلاميذ من حاضر ملئ بالشغف والقدرة على الانفتاح لثقافات و،مفاهيم يتحصن بها في مواجهة تحديات المستقبل القريب البعيد,مع التركيز على دور المعلم إلى جانب دور الأهل.