قبل حوالي عام من الآن نشرت قصّتي للأطفال بعنوان “حروف وكلمات” وقارنت اللغة بالبشر وقلت: “اللغة كالبشر تولد وتموت”. عدد كبير من اللغات يواجه مخاطر الانقراض، وكم من لغة لم تعد تستخدم في يومنا هذا واندثرت. ومن هُنا، أشعر بالخوف على لغتي العربيّة من الموت، وإليكم بعض الأسباب:
1. عدد كبير من الأهالي العرب لا يتحدّثون العربيّة مع أطفالهم ويرفضون ذلك. لا أعرف لماذا لا يتم التشديد على أهمّيّة ممارسة اللغة الأمّ من قبل المدرّسين، ومن خلال حملات توعية تقوم بها المدارس. أنا لا أمانع أن يتحدّث أحد أولياء الأمور اللغة الأجنبيّة ويحافظ الآخر على اللغة الأمّ، على سبيل المثال، أنا أتحدّث الفرنسيّة مع ابنتي، ووالدتها تتحدّث معها العربيّة، وهي، كذلك، في مدرسة ثنائيّة اللغة (فرنسيّ – إنجليزيّ)، وتدرس أيضًا العربيّة، ما جعلها تتقن اللغات الثلاثة من عمر صغير. إنّ هذا الأسلوب التواصليّ، كل فرد من العائلة يستخدم لغة مع الطفل، يعتمد على دراسات متنوّعة في مجال تعدّد اللغات.
2. عدد كبير، كذلك، من المدارس الأجنبيّة الخاصّة لا تعطي اللغة العربيّة حقّها من حيث عدد الحصص، نوعيّة المصادر، وتدريب المدرّسين، فيصبح تدريس اللغة فقط لأنها إلزامية حسب قوانين الدول العربيّة، وكلّنا يعلم أن تعلّم اللغة يجب أن يرتبط بحافز داخليّ وليس فقط لأنها إلزاميّة، أو لأننا نحصل على هدايا ونجوم من المدرِّس.
كلّ الشعوب العربيّة، بنظري، يجب أن تكون متعدّدة اللغات، فلا شيء يمنع من أن تتحدّث العربيّة بطلاقة والفرنسيّة والإنجليزيّة وغيرها، فخلف تعدّد اللغات علم وأبحاث ودراسات نفتقدها في حصص تدريس اللغة، وفي تدريب المدرّسين وإعدادهم. الاهتمام بالعربيّة لا يعني أيضًا عدم استخدام لغات أخرى والتأخير في إدخال اللغة الأجنبيّة إلى المنهاج.
ما زال عدد المدارس التي تعتمد ثنائيّة اللغة قليل جدًّا. وأنا أشدّد على استخدام ثنائيّة اللغة لأنه مفهوم متشعّب ويحثّ على تعاون قويّ بين مدرسيّ اللغات؛ فالنموذج الحاليّ حيث يتعلّم التلميذ كلّ المواد باللغة الأجنبيّة ويتعلّم اللغة العربيّة كلّ يوم، أو العكس، يقوم بخلق حواجز بين اللغات. أنا أتحدّث عن ثنائيّة اللغة حيث التعاون بين أساتذة اللغة الأجنبيّة واللغة العربيّة يعتبر أساس المنهج، ويتم التعاون بشكلٍ أسبوعيّ لتحضير أنشطة التعلّم وللوصول للفهم باللغتين.
إنّ هذا التعاون قد يؤدي إلى نظرة جديدة في الجدول الأسبوعيّ للتلاميذ، ففي بعض المدارس التي تعتمد ثنائية اللغة تتواجد داخل الفصل، على سبيل المثال، معلّمة اللغة العربيّة ومعلّمة اللغة الإنجليزيّة معًا. النموذج الآخر يعتمد على تقسيم المواد حسب اللغات، فتُدرَّس مادّتي الرياضيّات والموسيقى بالعربيّة، أمّا العلوم والفنون التشكيليّة بالإنجليزيّة مثلًا. ونجد، في بعض مدارس البكالوريا الدوليّة، أنّ بعض الوحدات تدرّس بالفرنسيّة، والبعض الآخر بالإنجليزيّة، أو يتم تدريس التلاميذ أسبوع باللغة الإنجليزيّة وأسبوع باللغة الفرنسيّة.
أسأل نفسي:
- لماذا لا نرى مشاريع ووحدات مشتركة بين مدرّس اللغة العربيّة ومدرّس اللغة الإنجليزيّة: فيكتب التلميذ رسالة باللغتين أو وصفة طعام أو قصيدة؟ لماذا لا يوجد لدينا وحدات تقارن بين اللغات؟
- لماذا لا يقسّم التلاميذ مستويات؟ ويتم، أيضًا، التعاون بين تلك الصفوف فالتلاميذ المتمكّنين من اللغة يقومون بتدريس المبتدئين خلال مشروع محدّد؟
- لماذا الجداريات في الصفوف تعطى للغة الإنجليزيّة والرياضيّات والعلوم، بينما تخصّص مساحة صغيرة جدًّا للغة العربيّة؟ أليست هذه رموز تنقل للمتعلّم عدم أهمّيّة اللغة العربيّة؟
- لماذا تحتوي مكتبة المدرسة على بعض الكتب باللغة العربيّة، وآلاف الكتب باللغات الأجنبيّة؟
- لماذا بعض المعلّمات المساعدات لمعلّمة اللغة العربيّة في صفوف الروضات لا يتقنّ العربيّة؟
- لماذا يقوم مدرّس اللغة العربيّة بتدريس جميع المراحل وجميع الصفوف؟ فهل، مثلًا، مدرّس اللغة يستطيع التحضير، بشكل فعّال ومبدع، لصفوف الروضات ولغاية نهاية المرحلة الابتدائيّة؟ أو لجميع صفوف المرحلة المتوسّطة والثانويّة؟
- هل قام مدرّس اللغة العربيّة لغير الناطقين بها بتعلّم لغة أجنبيّة كتجربة، مثلًا 20 ساعة لتعلّم الإسبانيّة؟ أليست هذه طريقة لوضع نفسه مكان التلميذ واختبار استراتيجيّات وتقنيّات جديدة؟
- لماذا لا يوجد داخل كتبنا المدرسيّة وحدة عن تغيُّر اللغة، وكيف تأقلمت مع تطوّر التكنولوجيا، وكيف ابتكرنا لغات جديدة وحروف جديدة ورموز جديدة؟
- لماذا لا ندرّس مواضيع تواكب العصر وتساعد على اكتساب التفكير الناقد: مثلًا هل تكتب العربيّة بحروف لاتينيّة؟ ولماذا؟
اللغة ليست بحاجة ليوم عالميّ للاحتفال بها، وليست بحاجة لأسبوع قراءة أو مسابقة تعبير كتابيّة. اللغة عبارة عن فكر، عن ثقافة، عن شعر، عن مسرح، عن أدب، عن فنّ، عن تراث وعادات وقصص وحكايات، عن فلسفة وعلوم، عن دراسات وأبحاث، اللغة نعيشها؛ هي أسلوب حياة وطريقة تفكير، وهي تربط البشر؛ جسر للتواصل والنموّ والإبداع
من هذا المنبر أدعو جميع المدرّسين للتعاون وللتواصل. أطلب منهم شرح، وبشكل مباشر، أهمّيّة اللغة العربيّة وإعطاء التلاميذ أسباب لتعلُّمها:
1. منتشرة في عدد كبير من البلدان.
2. تساعد خلال السفر.
3. تساعد على التعرّف على ثقافات متعدّدة.
4. تساعد على الاطلاع على الديانة الإسلاميّة بعمق.
5. تساعد على تقبّل الآخر.
قد يعتبر البعض هذا المقال مقالًا تشاؤميًّا، ولكنّني أعتبر أن هذه الأسئلة، التي طرحتها على نفسي وتشاركتها معكم، قد تكون بداية لمراجعة المناهج والمصادر، وبداية لمراجعة دور اللغة العربيّة في يومنا هذا
نشر هذا المقال لأول مرة على منصة منهجيات في 5 مايو
2 thoughts on “اللغة تموت”
من أجملِ ما قرأتُ!
العربيّةُ حياةٌ، وأسلوبُ حياةٍ، وليست مجرّدَ مادّةٍ مدروسةٍ.
لعلّ الهزيمةَ النّفسيّةَ الّتي يُعاني منها العربيُّ -عمومًا- سببٌ في لجوئِه لغيرِها، وهروبِه منها.
شكرا